All
x
Pupilles - Addawliya internationale
Pupilles - Addawliya internationale
1992-Oct-21
Pupilles (solo) @ Arver Space, Paris, from 26/09 to 10/10/1992

يخاف أن يصبح الفن مهنة
ايلي ابو رجيلي: اللحظة هي حياة اللوحة
ايفانا مرشيليان

في الخامس والعشرين من شهر أيلول/سبتمبر إفتتحت صالة العرض الفرنسية ( آرفير سبيس – Arver Space) في باريس معرضا تشكيلياً للفنانين اللبنانيين ايلي ابو رجيلي وجورج ندرا المقيمين في باريس منذ عدّة أعوام. وقد تجلّى من خلال مجموعة اللوحات المعروضة عمق تجربتهما الفنية على تنوّع توجهاتها وتقنياتها.

أما حديثنا مع أحد الفنانين ايلي ابو رجيلي فقد كان حديثاً طريفاً أبدى فيه رأيه في الفن والفنانين ملخصاً لنا حياة اللوحة – لوحته وموتها.

 

ايلي ابو رجيلي: اللحظة هي حياة اللوحة

 

إن الفنان يرسم لأنه لا يتقن فعل أي شي آخر. الفن هو عامل توازن. كل شيء يبدأ بلحظة وينتهي بلحظة. الفن الذي أقوم به هو عمل آني تكمن فيه كل التجربة المكوّمة والمكثفة والمجمعة في مكان ولحظة معينين في هذه المساحة – النقطة. أما متى يجب أن تموت اللوحة فلا أعرف. عليها هي أن تُقرر ذلك... هكذا بدأ ايلي ابو رجيلي حديثه. سألناه:

 

- لماذا كلما تطلعنا إلى لوحة، يُثير فينا هذا التطلع " ضجة بصرية" ما، تشذ بطرف قصيدة عرفناها، أو كلمات نردّدها سهواً وقد نسينا صاحبها، فقط لنجتاز اللوحات بسيل من الكلمات والحالات الطارئة؟ كيف تحدد لنا علاقة اللوحة بالكلمة سلباً أو ايجابياً؟

تدخل اللوحة كأي كائن بشري في علاقة خاصة وفريدة مع الآخر الذي يأتي ليراها. أرى أن هذا الآخر يملك حرّية التعاطي معها سواء اكان بالكلمة ام بالصمت. الكلمة كاللون، هي رمز مشترك وجدت اصلا لتقوّي شروط التفاهم بين الطرفين.

- ما معنى أن يكون المرء رساماً؟

فنان أو رسام يعني أن يأخذ المرء قراراً بأن حياته لا تهدف الى بداية او نهاية همها تلبية حاجيات ومتطلبات انسانية اولية. الفن هو هذا القرار الذي يأخذ الإنسان على عاتقه همّ تنفيذه في حين يضع جانباً هاجس الحاجيات الأخرى.

 

- المهنة، مهنة الرسم أو مهنة الفن، هي معرفة وموهبة قد يعبّر عنهما باليد. يد الفنان. لكن لماذا برأيك، كلّما تطور الفنان الى درجة الاحتراف، غرق في العقلانية؟ والى اي درجة يجب أن يعمق الفنان تجربته وينجح من دون أن يسيء الى كل ما يتعلّق بـ"الذاتيّة" الإنسانيّة؟

هناك مشكلة بين فكرة "الشطارة في الفن" وفكرة الفن بحد ذاتها. "الشطارة" هي ان يعلم الفنان نفسه، ان يمتلك التقنية والرموز ويطورها حتى نهايتها وتتحول عنده الى "مهنة". مهنته ان يلعب بهذا الشكل، ان يألفه، ان يمضي فيه الى النهاية. وبالتالي يصبح كل عمل موجهاً نحو هذه النقطة بالذات الى درجة قد يتحول فيها الفنان الى آلة تكرر الاشياء وتكرر ذاتها. هذا هو الخطر الذي يحيط بمن يصبح بارعاً في الفن.

لذا، انا، ارفض كلمة مهنة الفن. المهنة قد تطال التقنية فقط لأنه حين يمتلك الفن اصولاً ما يفقد سبب وجوده ولا يعود فناً. خطر الفنان هو قوعه في شرك الالمام والبراعة. كلما سيطر على تقنية ما كلما دخل من باب الحرفية. الخطر هو ان يتحول الفن الى حرفة. عندها تموت فيه كل وسائل التعبير يتحول الى زخرفة.

خلافا للقول المأثور بان الرسم جاء اصلاً لهدم العالم، من يوكل الى الرسامين اليوم مهمة المجيء الى العالم لهدم اللوحة؟ برأيك ما الذي تبنيه اللوحة وما الذي تهدمه؟ لأي مكان ترسم ولأي زمان وهل يعنيك مستقبل اللوحة؟

 اللوحة لا تبني شيئاً. لعل القول الثاني اكثر صحة لأن اللوحة يجب ان تكون لتهدم.

النسف والتخريب والهدم! كنت اتمنى للوحة مهمة اصعب!

وماذا تريدينها ان تبني؟ العالم مبني بحد ذاته. بعقده، بتحليلاته، بعلاقاته، تأتي اللوحة لتهدم حائطاً صغيراً تعلق فوقه لتفتح باباً على اسئلة جديدة. وكلمة لوحة اصبحت غير موجودة اليوم واصبحت لا معنى لها. في هذا العصر لا بد من الكلام عن العمل الفني لأن الحدود بين الأشكال الفنية صارت شبه معدومة نظراً لبروز اشكال فنية متعددة لها علاقة بالتقنيات الحديثة وادواتها.

انطلاقاً من هذا القول: "الانحراف الفني اليوم هو الشكل الوحيد والامثل الذي يتيح للبشرية المنازعة ان تسجل بشكل من الاشكال تراجيديا اندثارها، الا يمكننا ان نعزز، ولو افتراضاً احتمال زوال الكثير من الاشكال الفنية السائدة اليوم كما حصل سابقاً بالنسبة الى الفلسفة او بعض النظريات الميتافيزيقية التي حكي منذ حين عن انتحارها؟

ان انتحار الفلسفة او بعض النظريات الميتافيزيقية هو انتحار وهمي لأنه، حين اصبح هذا الموت علنياً، اعطيت له الحياة من جديد. ان الفن والفكر لا يخضعان للمقاييس التي يعتمدها الانسان في قياسه للحياة او الموت. الفن المعاصر انقذ اليوم لأننا نشعر فعلاً ان كل الفلسفات، حتى القديمة منها، لم تمت بل استمرت بشكل واضح وتحولت وتطورت رغم انها فقدت بعضاً من مكانتها كأساس قامت عليه بقية العلوم والفنون. وها نحن اليوم نختصر، بكتاب او بكتابين، مئتي عام من الفلسفة والافكار والصراعات. على اننا اليوم لا نملك الوقت الكافي او المسافة الزمنية الكفيلة بان تجعلنا مدركين لاهمية هذا العصر.

- هل يمكن ان تُحدد أطر فلسفة "الفن الحديث"؟

ان يعيش الفن الحديث من الفلسفة او ان يكون انعكاساً لها ليس شرطاً من شروط وجوده واستمراريته. فكل التيارات الفنية الموجودة حالياً مستمرة منذ اكثر من عشرين او ثلاثين عاماً وسوف تخلص كل التيارت المتضاربة اليوم الى حالة من التوحد سنراها بشكل اوضح بعد نصف قرن على الأقل. عندئذ سندرسها كحقبة متناغمة ومتشابهة. نحن اليوم نعيش داخل النقد والنقد المضاد افقنا محدود ومتعلق بأفكار صغيرة. بعم مئة عام لن يبقى منها الا الأفكار الكبيرة.

-  في اطار تعاطي اللوحة ومساحتها مع الخارج، حدثنا عن الشكل الخالص الذي قيل فيه انه شكل اليأس الموجه ضد ازعاجات العالم الخارجي؟

الشكل الخالص قد يكون انساناً او حصاة او شجرة. وقد يكون في افضل الأحوال شيئاً لا وجود حسياً له. قد لا نملك امكانية فهم هذا الشكل او ذاك لأننا لا نملك صورة مشهديه له في ذاكرتنا. الشكل الخالص غير موجود لأن من شروط وجوده الخضوع للموروث والذاكرة. ونحن لا نستطيع ان نعمل الا من خلال ذاكرتنا. وبما اننا حيوانات انفعالية تأتي كل أحاسيسنا وعقدنا في لحظة الخلق لندخل ما يسمى بالمؤثرات العاطفية والشاعرية.

- لنتوقف قليلاً عند هذه المؤثرات الثلاثة: الشاعرية والخيال والنقد الذاتي لدى الفنان. وكأن الفنان هو القادر الوحيد على نقد ذاته وفنّه...

كل نقد هو نقد المكتسب الذي نعرفه وتعرفه ذاكرتنا. المكتسب هو الحكم الوحيد. اما الخيال فهو موجود بالقوة في اي عملية خلق. والشاعرية هي بيت القصيد. هي الغاية. هي البيت المقصود بلوغه في نهاية المطاف مهما جالت خيالاتنا وتشردت خارج الذات وداخلها.

- لكن في الفن الحديث المعاصر تغييب لكل العناصر الحسية المكونه لهذه الشاعرية إن من حيث الموضوع او من حيث المدلولات الشكلية...

اكرر ان الشاعرية متعلقة بالإنسان هي جزء من شكل مكتسب وهي قدرة هذا الشيء على ان يعكس حالات او صوراً او قصصاً قديمة. والذي حصل مع الفن الحديث ان هؤلاء الفنانين حاولوا الخروج من الشكل - من باب الفضولية او ربما من باب الهروب – لكنهم ابقوا على روحه. واعتقد انهم حاولوا ولا زالوا يحاولون التعرف الى عوالم جديدة قد تبدو صعبة للبعض لأنها تختلف كما قلت عن الصور الجاهزة التي ربيت ذاكرتنا عليها. في الفن الحديث رؤية مختلفة. تكثيف وإختزال. لماذا ارسم مثلاً بيتنا بغرفة وشرفاته وكل تفاصيله ان كنت لا اذكر منه الا رائحته؟ وهذه الرائحة القليلة التي لاتزال في الرأس والقلب قد لا يجسدها لي الا اللون اي المادة. انا اعمل على هذه المادة وأحوّلها الى حالات شاعرية تعبر عن ذاتها بذاتها ولا تتوسل اشكالاً اخرى للتعبير. هذه الألوان التي تعطي اشكالاً لم نشاهدها من قبل قد تكون قمة الشاعرية لأن لها علاقة مباشرة بالضوء. ففي كل لحظة من النهار تأخذ اللوحة ضوءاً خاصاً بها وتحيل علاقة المواد بتعرجاتها وانحناءاتها وألوانها الى علاقة ذاتية داخلية قبل ان تخرج الى العين اي عين المشاهد.

واذا عدنا الى النقد ندرك ان الفنان لا ينقد عملاً الا اذا كان نتيجة لتخوفه من عدم بلوغه الى هدف ما، علماً ان الهدف منذ البداية، هو عدم البلوغ الى اية نقطة محدودة.

- ان تتوقف عن الرسم ماذا يعني لك ذلك؟

هذا يعني ان إنساناً آخر سيولد. هذا الإنسان قد يصادف ان يكون ارهابياً او اي رجل عادي لا يفكر بمسألة الفن على الإطلاق.

- سمعتك تتكلّم منذ قليل عن انتحار اللوحة. برأيك، متى يجب ان تنتحر اللوحة؟

كل لوحة هي انتحار. هي انتحار المرء وارتماؤه في المكثف من التعابير والهموم. كلمة انتحار قد تكون كبيرة افضّل عليها كلمة محاولة انتحار. فلننتحر أولاً ولنرسم ثانياً. او فلنكن اكثر لطفاً وهدوءاً... فلنمت اولاً ولنرسم ثانياً. اما متى يجب ان تنتحر فلا اعرف. هي التي تقرر متى يجب ان تتساقط عن جداره، عن مساحتها. على كل حال هي لا تنتحر، هي تبدل ثيابها فقط. واللوحة تتساقط و"تهرّ" عند الضرورة. تنهكها الحياة فتتساقط كأي شيء في الطبيعة. كل شيء يسقط في أوانه. المنتحرون لا ينتحرون. هم يحاولون الانتحار. اقول يحاولون لأنهم لا يعرفون الموت جيداً. لم يألفوه كما الفوا الحياة. خلق اللوحة هو نحرٌ لها. هو حكم عليها بالموت. فهي كأي طفل صغير سيكبر وسيعيش وسيموت. اما الحائط الذي يحتضن اللوحة فهو امها وقد يموت قبلها.

- اهذا هو اليأٍس الذي كنت تعنيه؟

اليأس هو ادراكنا ان كل ما فعلناه وسوف نفعله لن يبقى. وان كل اللذين عرفناهم من اطفال ونساء وأشجار وبيوت ومدن سيموتون. سنفتش عن رائحتهم ورائحة ذكراهم لأنها لن تبقى في الرأس.

- إذا كانت اللوحة ستموت أيضاً فانها لن تبقى ربما الا من خلال الأدب أو من خلال ما كتب عنها.

اذا ماتت اللوحة لماذا لا يموت الأدب أيضاً؟ ومن قال ان لغة اليوم قد لا تصبح رموزاً والغازاً للمستقبل؟ ومن قال ان وزن الكلمات سيبقى هو نفسه بعد مئة او مئتي عام؟

- اي لوحة رسمها غيرك كنت تتمنى لو رسمتها انت؟

هناك لوحة لا استطيع ان ارسمها ابداً لأنها تعيش من لحم ودم. هي لوحة خلقها من هو اقدر مني بكثير. اما من بين الرسامين فهناك من اشعر بانهم سبقوني وفعلوا ما كنت احب ان افعله انا

- اخيراً: من هو الفنان الرديء؟

هو الفنان الشاطر على فكرة كل فنان هو رديء.

- من هو الفنان الأصيل او الجيد؟

انه الفنان الرديء.

ايفانا مرشيليان